فان جوخ.. وجه الأديب لا الرسام
"شيءٌ ما يولدُ دومًا مِن الفيض؛ الفنّ العظيم ولِدَ مِن مخاوف عظيمة، مِن وحدة عظيمة، من كبتٍ وعدم استقرارٍ ، وعوائق عظيمة أيضًا ،
لقد كان يُعاني هذا الفيض. يُقاسي اضطراب ثنائي القُطب، يُكابد الخوف من المرض، الوحدة، الاكتئاب. كان لا يكاد يخرج من المصحة النفسيّة حتى يدخلها مرة أخرى.[2] كان يظن نفسه نكرة وغير مسموع وغير مرغوب فيه في عالم متحجر لا مبال، ومن جرّاء ذلك ودَّ - وقد كان قادرًا على ذلك - أن يخلق لنفسه عالمًا خاصّ يعيش فيه. فخلق عالما كاملا مِن اللوحات، عالم كامل من الكلمات خاص به. لقد صار خلق الجمال قوت قلبه الذي يقتات عليه. صارت اللوحات والكلمات بعوالمهن الواسعة بيتًا يقيه برد المصحّات النفسيّة. لم يستطع أنّ يُحسن أي شيء آخر غير خلق تلك العوالم. كانت تلك هي المسرّة التي تحمله على العيش: تأثير وتوهج اللوحات، أو الإيقاع الموسيقي المُنضبط للكلمات.
ولد الرسّام الهولندي فنسنت ويليام فان جوخ في 30 (آذار/مارس) من عام 1853. وعلى الرغم من أن بعض أعماله الآن تعد من أغلى اللوحات سعرًا في العالم، إلا أن فان جوخ عاش ومات فقيرًا حزينًا وغير معروف،[3] لم يكن هناك أي إيماءة على أن هذا المُعذب سيصبح أحد أهم وأشهر الرسامين في التاريخ.
فنسنت الكاتب لا الرسّام
لكنّنا هنا لا نعرج على فان جوخ الرسّام. بل نلج لعالم الأديب. ذاك الكاتب الذي رحل تاركا ما يُقارب ألف رسالة،[4] ألف نصّ أدبي. صحيح أنّ الكتابةَ لم تجعلَ مِن حياتِه القاتمة فردوسًا. لكنه بنى بتلك الألف قلعته الخاصة وزيّنَ جُدرانها باللوحات واحتمى فيها مِن مطارق واقعه المُثقل بالاضطرابات القُطبيّة. صحيح أن فان جوخ لم يكن له أي قدرة على العيش، لكنه كان يملك قدرة غير عاديّة على الإبداع.
إن المرء لا يحتاج لقراءة متعمقة في خطابات فان جوخ ليُدرك أننا بصدد أديب لديه رغبة لا فكاك منها في مشاركة تجربته النفسيّة. والقراءة البسيطة الأوليّة لخطاباته توضح أن تلك التجربة التي يتشاركها ليست تجربة العيش فقط؛ بل تجربة المصحة النفسية وخيبات الحُبّ والفقر المُدقع والوحدة والوحشة والحاجة الماسة لوجود رفيق في الدرب. لقد عكست الخطابات، مثلها مثل اللوحات، حقيقة الروح المسحوقة لفان جوخ. روح مُحبّة للطبيعة، للجمال والخير. روح تلهث خلف الحب بلا جدوى وبلا أمل. حتى ما إنّ يأس مِن أن يجد رفيقةً لدربه، أطلق على نفسه الرصاص، في 27 (تموز/يوليو) 1890، ليموت بعد ذلك بيومين، 29 (تموز/يوليو)، متأثرا بجراحه.
إنّ فكرة الرسام المنزوي في مصحة نفسيّة صارت "كليشيه" منذ سلط المؤرخ الهولندي جون هولسكر، 1907 - 2002، الضوء على فان جوخ ككاتب وأديب في كتابيهِ: فنسنت وثيو فان جوخ؛ سيرة مزدوجة (1990)[5] - وفان جوخ من الألف للياء (1980). [6] وعلى الرغم من أن فان جوخ كتب بعفوية وبساطة شديد عما يختلج صدره، إلا أنه كتب بإستراتيجيات أدبية تختلف باختلاف الموضوع والمرسل إليه. لقد بدى واضحًا أن كاتب تلك الخطابات، حتى وإن كان يعاني اضطراب ثنائي القطب، ليس ساذجًا، بل سهل ممتنع.
ذلك ليس رأي هولسكر الخاص. لقد كان واضحًا أن فان جوخ كان يمكن أن يكون كاتبا لو لم يكن رسامًا. وقد عبَّر فان جوخ نفسه عن تلك الرغبة في خطابه، رقم 710، الموجود الآن في متحف فان جوخ في أمستردام، كتب لأخيه ثيو ، في يوم الاثنين الموافق 22 (تشرين الأول/أكتوبر) 1888، قائلا: "كنت سأتوجه لإدارة عمل خاص أو أكتب."[7]
لقد خلص هولسكر إلى أنّ فان جوخ كان كاتبًا بقدر ما كان رسامًا لأنَّ فان جوخ نفسه اعترف بذلك وأدرك مهاراته اللغوية الإبداعيّة. ويرى هولسكر أن فان جوخ كان يقصد النقد الفني بمهنة الكتابة لكنه خشي ألا تكفيه قوت عيشه.[*] ومع ذلك، في خطاباته، كان يُحسن التعبير عن المشاهد الطبيعيّة واستحضارها على الورق. وبالرغم من عفويته الصادقة، كان يجيد اختيار الصّيَغ اللغوية وسياقة الحجج المنطقية.
وكثيرا ما يتم الاستشهاد بخطابه، رقم 402، الذي كتبه بتاريخ 2 (تشرين الثاني/نوفمبر) 1883، واصفًا فيه رحلته على عربة في الريف بأنه نص نثري لكاتب موهوب. ويتنقل فان جوخ في هذا النص بين الجمل بأسلوب أدبي مشوّق في محاولة منه لإقناع أخيه بأن يأتي للريف ليصبح رساما ويعيش معه. يبدأ فان جوخ الخطاب بوصف أكواخ الريفيين البسيطة تُحيط بها أشجار الحور، ثم يسترسل في وصف الريف كلوحة فنيّة؛ كيف يلتحف الريف بالسلام والصمت والغموض في الصباح الباكر. فيما يلي جزء مُترجم مِن خطابه:
"لقد كانت الركوبَة في القرية جميلة بحق. أسقف ضخمة شبيهة بالطحالب تتلحف بها المنازل والحظائر والأكواخ. المساكن هنا واسعة جدًا. تتشعب بين أشجار البلّوط البرونزيّة البديعة. ألوان الطحالب المتدرجة بين الأخضر الذهبي والمحمرة والرمادية والأرجوانية المزرقة الغامقة في التربة، درجات الأخضر النقي لا توصف في المناطق الخضراء المحيطة بحقول القمح الصغيرة. درجات الأسود في جذوع النخل الرطبة تقف في وجه مياه السواقي الذهبية المتدفقة. أوراق الخريف تحوم في دوامات فضفاضة، كما لو أنها تهب بحرية تامة فتتخللها الشمس لتشرق على شجر الحور والبتولا والليمون الحامض وشجر التفاح. السماء دائمًا صافية ومضيئة؛ ليست بيضاء ناصعة، بل أرجوانيّة، لا يمكن شرح ذلك، فهي بيضاء بياض يشوبه حُمْرة وزرقة وصفار. أنها تعكس كل شيء والألوان تتراص فوق بعضها في كل شبر منها، وهي ضبابية تتداخل في الشبّورة الرقيقة أدناها؛ ويتوحدان في طيف رمادي بالغ الرقّة."[8]
كانت الكتابة بحرفيّة الأديب بالنسبة لفان جوخ حيلة يُجيد استخدامها عادة لاستمالة المُرسل إليه. فيستخدم نبرة عاطفيّة وأسلوب منمق، نثري أحيانا وشعري أحيانا أخرى، لتوضيح وجهة نظره. فمثلا، في أحد خطاباته، رقم 788، لأمه آن فان جوخ، والمرسل في الجمعة 12 (تموز/يوليو) 1889، يقول فنسنت: "والآن، يا أمي العزيزة، إن الحُزنَ الذي كسانا به الفراق والضياع، يبدو لي غريزي، بل وضروريًا لنستطيع تقَبُّل خسائرنا، بل وربما يُساعدنا لنتعرف على أنفسنا والآخرين فيما بعد. ببساطة، دوام الحال مِن المحال."[9]
استعارات عاطفيّة وحجج منطقيّة
موهبة فان جوخ في الكتابة تُشرق بكامل بهائها ليس لأنها ذات مضمون عاطفي فقط؛ بل لأنها تستند للمنطق أيضًا. ففي حين ينتقل بين الاستعارات والصور الشعرية للدفاع عن وجهة نظره لا يعوزه المنطق والحكمة أيضًا. مثال ذلك، خطابه لأخيه ثيو رقم 325، المُرسل بتاريخ 7 (كانون الأول/ديسمبر) 1883، والذي يقول فيه فنسنت: "الأقلام الجميلة جدًا، مثل الناس الأنيقة جدًا، تكون أحيانًا غير عملية لدرجة صادمة. وفي رأي، تفتقد من الليونة والمرونة ما تتمتع به الأقلام العادية لحدٍ ما."[10]
توظيف فان جوخ للاستعارات يظهر في العديد من خطاباته. مثال آخر على ذلك هو خطابه لأخيه ثيو رقم 413، المرسل بتاريخ 15 (ديسمبر/كانون الأول) 1883، والذي يصف فيه ضيقه مِن أبيه وأمه، اللذان يعاملانه ككلبٍ حقير، فيقول: "بالمثل، أشعر بالاشئمزاز من أخذهم إياي للمنزل، ويكأنّي كلب أشعث ضخم في البيت. سيدخل الغرفة ينبش بحوافره الرطبة - ومِن ثمَّ، فهو فظ. سيقتحم طريق الجميع. وينبح بصوتٍ عال. باختصار، هو قذر. جيد جدًا - لكنَّ هذا الحيوان لديه تاريخ بشري، وبالرغم من أنّه كلب، لكن له روح بشر، بشر ذو مشاعر رقيقة، يستطيع أن يشعر بما يحسّه النّاس تجاهه. وهو أمر لا يستطيع بلوغه الكلب العادي."[11]
على طول الخطاب السابق ذكره، يستمر فنسنت في توظيف نفس الاستعارة واصفًا نفسه بالكلب ليُعبّر عن مدى ضيقه بمعاملة والديه له. بحيث لا يُترك المُرسل إليه، أخوه ثيو، إلا مُدركًا لمدى سوء المعاملة التي يتعرض لها فنسنت. في خطاب آخر من فنسنت لإيمل برنارد، رقم 632، المُرسل بتاريخ الثلاثاء 26 (حزيران/يونيو) 1888، يصف فنسنت المسيح قائلًا: "لقد عاش بهدوء كفنان أعظم من أي فنان، لم يكن عمله في الرخام أو الطين أو الدهانات، بل في اللحم الحي. كان فنانًا استثنائيًّا، بالكاد يمكن إدراكه بأدمغتنا العصبية الغبية الحديثة. فهو لم ينحت تماثيل، ولم يرسم لوحات، ولم يكتب كُتبا.. لقد قالها بصوت عال وواضح، لقد جعل البشر؛ خالدون..!"[12]