عمار بلحسن في ذكراه : الكلمة والموقف
في مثل هذا اليوم 29 أوت من سنة 1993، رحل الكاتب عمار بلحسن، وهو في عز شبابه، وأوج عطائه الأدبي والفكري؛ كتب القصة القصيرة وبرع فيها، هكذا يعتبر من خلال المجموعات القصصية الثلاث التي أصدرها، أحد أبرز كتّاب القصة القصيرة في الجزائر، وهي : "حرائق البحر"، "الأصوات"، "فوانيس"؛ ثم سرعان ما انتقل للكتابة في السوسيولوجيا تخصصه الأكاديمي، لينجز مقالات ودراسات وكتب، من أبرزها كتابه المهم : "أنتلجنسيا أم مثقفون في الجزائر ؟" والذي يطرح من خلاله أسئلة عميقة في العلاقة بين المثقف والسلطة والمثقف والمجتمع، وهي أسئلة لا تزال مثار نقاش إلى الآن.
عمار بلحسن
وحتى وهو على فراش المرض، بعد أن تمكّن السرطان من الاستحواذ على جسمه الهزيل؛ كتب "يوميات الوجع"، والتي صدرت كتابا نشرتها "التبيين"بعد رحيله. كتب رسالة مؤثرة تشبه الوصية إلى زوجته، بعد أن أحسّ بدنوّ أجله؛ وقد نشر الرسالة صديقه الكاتب الراحل الطاهر وطار في مجلة "التبيين" (العدد 7 ، السنة 1993) التي كان المرحوم عمار بلحسن رئيس تحريرها، من بين ما جاء في الرسالة : "... اجعلي من أبنائي أزهارا ورجالا ونساء مثقفين نظيفين ومكافحين، كما أحببت أن أكون، رغم الداء والهمّ والأيام التي لم تكن جميلة أو لطيفة.. لم تعطني الجزائر سوى قرحة و ورما، صحيح لم أفعل لها كثيرا، ولكنها فعلت فيّ الكثير، أحببتها واغتالت أحلامي كثيرا، لم أكن أتخيّل أن الحلم سيصبح كابوسا". ويكتب في "يوميات الوجع" متحسرا على الوضع المتردي لبلده الجزائر، بعد أن تصله وهو على فراش المرض أخبار الاغتيالات التي طالت المثقفين: "تباً لك يا وطني... بلاد الألم العريض.. لم يعرف فنانوك وشرفاؤك سوى الاغتيال أو الموت بالسرطان وحيدون في مستشفيات نتنة، معزولون إلا من حنينهم وآهاتهم".
مجلة التبيين
اكتشافي للمرحوم عمار بلحسن، يعود إلى منتصف الثمانينيات، شاهدته في برنامج تلفزيوني في قناتنا "اليتيمة" يومها؛ وكانت الجزائر حينها تمرّ بأزمة اقتصادية خانقة، بسبب انخفاض أسعار البترول، أزمة ألقت بظلالها على كل القطاعات، من بين الإجراءات المتخذة يومها، توقيف استيراد الكتب والصحف والمجلات من الخارج؛ الأمر الذي أغضب عمار بلحسن، وطالب في تدخله برفع الحظر فورا عن الكتب والمجلات، وشبّه الجزائر بدول منغلقة على نفسها مثل كوريا الشمالية؛ كانت تلك شجاعة نادرة منه أثارت إعجابي، في زمن الحزب الواحد والتعبير الأحادي؛ من يومها حفظت اسمه، ثم شرعت أقرأ له بعد ذلك قصصا ومقالات؛ كان رحمه الله مثقفا عضويا بمعنى الكلمة، يحاضر في الجامعة، يكتب في الصحف والمجلات الجزائرية والعربية، يشارك في الندوات والملتقيات الفكرية، يبادر، يتحرك، ويقول كلمته بشجاعة.
في المقال المهم الذي نشره في مجلة التبيين ( العدد 4 السنة 1991) تحت عنوان : من تسييس الثقافة إلى تثقيف السياسة، يشرح فيه ما سماه "الانغلاق السياسي" والذي يتجسد خاصة "في حياة يومية صعبة، ووسط ثقافي فقير ومدقع، من الكتاب والمجلة والجريدة، حتى السينما والمسرح والسياحة والترفيه والمقهى، فليس أمام شاب من حي الحمري أو باب الوادي سوى الانتحار أو المخدرات أو المسجد، رغم أن هذا الأخير تسيّس هو الآخر، وتحول إلى مجال حزبي، وأفرغ من مضمونه وموقعه كفضاء روحي وإيماني وثقافي، داخل نسق ثقافي متوازن ومتنوّع، من المدرسة والنادي والشارع، وصولا إلى المقهى والملعب والكشك والمكتبة والرحلة وعلاقات الاختلاط والصداقة والحب".
ما أحوجنا ونحن نعيش في بلدنا، هذه اللحظات الصعبة في تاريخها، إلى مثقف عضوي حقيقي من طراز عمار بلحسن، رحمه لله.
Posted from my blog with SteemPress : https://www.nafhamag.com/2018/08/29/%d8%b9%d9%85%d8%a7%d8%b1-%d8%a8%d9%84%d8%ad%d8%b3%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%b0%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%84%d9%85%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d9%82%d9%81/