شعرية القصّ في مملكة السرد عند عمار بلحسن
عبد القادر ضيف الله
عمار بلحسن
المجاميع القصصية هذه، شكلت تجربة عمار بلحسن القصيرة، الممتدة تقريبا من منتصف السبعينيات، باعتبار أن قصصه الأولى نشرت على مستوى مجالات عربية مثل مجلة "الأقلام" العراقية في حدود منتصف السبعينات، فنجده مثلا في 1 سبتمبر سنة 1976 قد نشر قصة " مغامرة الحوّات الذي لم يصبح قرصانا" في مجلة "أقلام" العراقية، حيث رسم هذه القصة بطريقة مختلفة ومغايرة عن شعرية السرد المتداول في تلك الفترة، أو عمّا كان ينشره جيله من القصاصّين في الجزائر، هذه القصة التي تنبني موادها الأولية من الواقع المعيش، في فترة شهدت مدّا إيديولوجيا واسعا شجعت عليه السلطة القائمة آنذاك، في محاولة منها لرصد الصراع الطبقي في واقع الفروقات الطبقية بين البرجوازية وأصحاب القبو كما يسميهم عمار في هذه القصة.
عمار بلحسن في قصة " مغامرة الحوّات الذي لم يصبح قرصانا"، يحلم بحورية البحر التي تنحدر من طبقة برجوازية، والدها يدخن سيجارة غالية الثمن، ويسكن فيلا كبيرة وهو البحّار البسيط الذي يصارع موج البحر، ويغدو من نجمة الفجر إلى مغيب الشمس، قبل أن يعود لقبو تسكنه أمه، يضعنا عمار في هذه القصة بين وعيين وبين مكانين، وعي البسطاء من البحّارة الذين يكدحون في البحر، ويعيشون حياتهم في شرب الجعّة وانتظار ما يجود به البحر من سمك، وآخرون يسكون الفيلات الكبيرة ويدخنون السجائر الغالية الثمن، ويجلسون على الأرائك الوثيرة، هذا النقل لواقع الصراع والفروقات الطبقية، عمار لا يكتفي برصده كمتضادات تمثل عالما واقعيا، ولا حتى عالما محكوما بالصراع الطبقي، كما ترسمه الجدلية المادية الماركسية، بل يتجاوز هذا الطرح، ليؤسّس عبر مجاز اللغة إلى طرح فني ينبني على نحت اللغة واستغلال إمكانياتها المجازية، لتقول اليومي والفني معا، بطريقتها وبطريقة عمار بلحسن التي تجعل من الواقع حلما ومن الحلم واقعا.
كتاب عمار بلحسن
وهذه ميّزة القصّ الشاعري الذي تميّزت به كتابات عمار بلحسن، على جميع كتّاب القصة من جيله، لهذا استحق أن يسمى برائد القصة الجزائرية، عمار بلحسن كقاص وكعالم اجتماع لا يحكي عن الواقع بل يرسمه، باثا رؤاه التحليلية والعلمية في ثنايا اللغة الشعرية، وبنظرة ثاقبة يعري هذا الواقع، ولكن ليس بطريقة العالم السوسيولوجي بل بطريقة الأديب الساحر، الذي تتحوّل اللغة بين يديّه إلى طقس سحري، لأنّ اللغة والكتابة في مجملها هي طقس سحري، في نظره كما قال حينما سُئل عن رأيه في الكتابة عموما في مجلة "مواقف" في عدد 51/52 لشهر يوليو من سنة 1984، يقول عمار : "عرفتُ الكتابة طقسا سحريا لتصفية النفس من القلق وإنزال الطمأنينة وطرد التعب من الروح والجسد ..... الكتابة طقس للتطهر .. وهي لعبة تدمير و تشكيل متخمة بالمعاناة و الاحتراق والتفاعل، مع ما تراكم من تجارب. ... والنص القصصي هو خطاب أو قول لغوي خصوصي، هو لغة معجونة بمواد الحياة والإيديولوجية، وهو لغة من ضمن أربع لغات على الأقل، لغة الحياة اليومية، اللغة الفصيحة أو لغة الثقافة ( الأدبية) واللغات (القصصية) " .
إذن عمار بلحسن ليس كاتبا عاديا حينما نظر بغير النظرة التي نظر بها جيله للغة، ولا حتى للكتابة التي كان يقوم بنحتها بشعرية، كما لو أنّه فنان نحت خُلق لينحت اللغة بدل الحجر. إذا قرأت يوما لعمار بلحسن، فعليك أن تقرأ ما يقوله بين السطور، ما تبوح به اللغة وهي تعانق السحري، دون أن تغفل عما يبوح به خطاب القصّ، لأن عمار بلحسن كاتب مختلف عجن في حياته القصيرة بين السوسيولوجيا والشعر والقص، ليكون كاتبا متميزا بشهادة كتّاب جيله من القصاصّين الذين تحوّلوا بعده إلى روائيين كبار أمثال واسيني الأعرج، أمين الزاوي، والحبيب السائح ... والقائمة تطول، في الوقت الذي كان عمار قد غدر به الموت وهو في مقتبل العطاء في 29 أوت من سنة 1993.
Posted from my blog with SteemPress : https://www.nafhamag.com/2018/08/29/%d8%b4%d8%b9%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b5%d9%91-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%85%d9%84%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b1%d8%af-%d8%b9%d9%86%d8%af-%d8%b9%d9%85%d8%a7%d8%b1-%d8%a8%d9%84%d8%ad/